فصل: تفسير الآيات (128- 130):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (128- 130):

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}
ولما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم، وصاروا يتزوجون ذوات الأموال منهن ويضاجرون بعضهن؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال: {وإن امرأة} أي واحدة أو على ضرائر.
ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال: {خافت} أي توقعت وظنت بما يظهر لها من القرائن {من بعلها نشوزاً} أي ترفعاً بما ترى من استهانته لها بمنع حقوقها أو إساءة صحبتها {أو إعراضاً} عنها بقلبه بأن لا ترى من محادثته ومؤانسته ومجامعته ما كانت ترى قبل ذلك، تخشى أن يجر إلى الفراق وإن كان متكلفاً لملاطفتها بقوله وفعله {فلا جناح} أي حرج وميل {عليهما أن يصلحا} أي يوقع الزوجان {بينهما} تصالحاً ومصالحة، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة الكوفيين بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام التقدير: إصلاحاً، لكنه لما كان المأمور به يحصل بأقل ما يقع عليه اسم الصلح بنى المصدر على غير هذين الفعلين فقال مجرداً له: {صلحاً} بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك.
ولما كان التقدير: ولا حناح عليهما أن يتفارقا على وجه العدل، عطف عليه قوله: {والصلح} أي بترك كل منهما حقه أو بعض حقه {خير} أي المفارقة التي أشارت إليها الجملة المطوية لأن الصلح مبناه الإحسان الكامل بالرضى من الجانبين، والمفارقة مبناها العدل الذي يلزمه في الأغلب غيظ أحدهما وإن كانت مشاركة للصلح في الخير، لكنها مفضولة، وتخصيصُ المفارقة بالطي لأن مبنى السورة على المواصلة.
ولما كان منشأ التشاجر المانع من الصلح شكاسة في الطباع، صوَّر سبحانه وتعالى ذلك تنفيراً عنه، فقال اعتراضاً بين هذه الجمل للحث على الجود بانياً الفعل للمجهول إشارة إلى أن هذا المُحِضر لا يرضى أحد نسبته إليه: {وأحضرت الأنفس} أي الناظرة إلى نفاستها عجباً {الشح} أي الحرص وسوء الخلق وقلة الخير والنكد والبخل بالموجود، وكله يرجع إلى سوء الخلق والطبع الرديء واعوجاج الفطرة الأولى الذي كني عنه بالإحضار الملازم الذي لا انفكاك له إلا بجهاد كبير يناله به الأجر الكثير.
ولما كان هذا خلقاً رديئاً لم يذكر فاعله، والمعنى: أحضرها إياه مُحضر. فصار ملازماً لها، لا تنفك عنه إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في قهرها عليه بتذكير ما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء، ولما كان التقدير: فإن شححتم فإنه أعلم بها في الشح من موجبات الذم، عطف عليه قوله: {وإن تحسنوا} أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين {وتتقوا} أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن الشحيح لا محسن ولا متق {فإن الله} أي وهو الجامع لصفات الكمال {كان} أزلاً وأبداً {بما تعملون} أي في كل شح وإحسان {خبيراً} أي بالغ العلم به وأنتم تعلمون أنه أكرم الأكرمين، فهو مجازيكم عليه أحسن جزاء.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان- وإن كانت المرأة واحدة- متعسر، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد: {ولن تستطيعوا} أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة {أن تعدلوا} أي من غير حيف أصلاً {بين النساء} في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق {ولو حرصتم} أي على فعل ذلك، وهذا مع قوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء: 3] كالمختم للاختصار على واحدة.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل، سبب عنه قوله: {فلا} أي فإن كان لابد لكم من العدد، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا {تميلوا} ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به، بين المراد بقوله: {كل الميل} ثم سبب عنه قوله: {فتذروها} أي المرأة {كالمعلقة} أي بين النكاح والعزوبة والزواج والانفراد.
ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه، فكان التقدير: فإن ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسيباً، عطف عليه قوله: {وإن تصلحوا وتتقوا} أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان غفوراً رحيماً} أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام.
ولما كان من الإصلاح المعاشرة بالمعروف، ذكر قسيمه فقال: {وإن يتفرقا} أي يفترق كل من الزوجين من صاحبه {يغن الله} أي الذي له صفات الكمال {كلاًّ} أي منهما، أي يجعله غنياً هذه برجل وهذا بامرأة أو بغير ذلك من لطفه، وبين منشأ هذا الغني فقال: {من سعته} أي من شمول قدرته وغير ذلك من كل صفة كمال، ولمزيد الاعتناء بتقرير هذه المعاني في النفوس لإحضارها الشح، كرر اسمه الأعظم الجامع فقال: {وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً {واسعاً} أي محيطاً بكل شيء {حكيماً} أي يضع الأشياء في أقوم محالها.

.تفسير الآيات (131- 134):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
ولما كان مبنى هذه السورة على التعاطف والتراحم والتواصل، لم يذكر فيها الطلاق إلا على وجه الإيماء في هذه الآية على وجه البيان لرأفته وسعة رحمته وعموم تربيته، وفي ذلك معنى الوصلة والعطف، قال ابن الزبير: ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة- ويدق ذلك ويغمض- لذلك ما تكرر كثيراً في هذه السورة الأمرُ بالاتقاء، وبه افتتحت {اتقوا ربكم} [النساء: 1]، {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1]، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [النساء: 131].
ولما ذكر تعالى آية التفرق وختمها بصفتي السعة والحكمة دل على الأول ترغيباً في سؤاله: {ولله} أي الذي له العظمة كلها {ما في السماوات} ولما كان في السياق بيان ضعف النفوس وجبلها على النقائص، فكانت محتاجة إلى تقوية الكلام المخرج لها عما ألفت من الباطل قال: {وما في الأرض} وعلى الثانية بالوصية بالتقوى لأنه كرر الحث على التقوى في هذه الجمل في سياق الشرط بقوله: {وإن تحسنوا وتتقوا} [النساء: 128] {وإن تصلحو وتتقوا} [النساء: 129] فأخبر تعالى بعد اللطف بذلك السياق أن وصيته بها مؤكدة، لم تزل قديماً وحديثاً، لأن العلم بالمشاركة في الأمر يكون أدعى للقبول، وأهون على النفس، فقال تعالى: {ولقد وصينا} أي على ما لنا من العظمة.
ولما كان الاشتراك في الأحكام موجباً للرغبة فيها والتخفيف لثقلها، وكانت الوصية للعالم أجدر بالقبول قال: {الذين أوتوا الكتاب} أي التوراة والإنجيل وغيرهما وبنى الفعل للمجهول لأن القصد بيان كونهم أهل علم ليرغب فيما أوصوا به، ودلالة على أن العلم في نفسه مهيئ للقبول، ولإفادة أن وصيتهم أعم من أن تكون في الكتاب، أو على لسان الرسول من غير كتاب، ولما كان إيتاؤهم الكتاب غير مستغرق للماضي وكذا الإيصاء قال: {من قبلكم} أي من بني إسرائيل وغيرهم {وإياكم} أي ووصيانكم مثل ما وصيناهم؛ ولما كانت التوصية بمعنى القول فسرها بقوله: {أن اتقوا الله} أي الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له.
ولما كان التقدير: فإن تتقوا فهو حظكم وسعادتكم في الدارين، عطف عليه قوله: {وإن تكفروا} أي بترك التقوى {فإن الله} أي الذي له الكمال المطلق {ما في السماوات} ولما كان السياق لفرض الكفر حسن التأكيد في قوله: {وما في الأرض} منكم ومن غيركم من حيوان وجماد أجساداً وأروحاً وأحوالاً.
ولما كان المعنى: لا يخرج شيء عن ملكه ولا إرادته، ولا يلحقه ضرر بكفركم، ولم تضروا إن فعلتم إلا أنفسكم، لأنه غني عنكم، لا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات؛ أكده بقوله دالاً على غناه واستحقاقه للمحامد: {وكان الله} أي الذي له الإحاطة كلها {غنياً} أي عن كل شيء الغنى المطلق لذاته {حميداً} أي محموداً بكل لسان قالي وحالي، كفرتم أو شكرتم، فكان ذلك غاية في بيان حكمته.
ولما كان الملك قد لا يمنع الاعتراض على المالك بين أن ذلك إنما هو في الملك الناقص وأنه ملكه تام: {ولله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {ما في السماوات} وأكد لمثل ما مضى فقال: {وما في الأرض} أي هو قائم بمصالح ذلك كله، يستقل بجميع أمره، لا معترض عليه، بل هما وكل من فيهما مظهر العجز عن أمره، معلق مقاليد نفسه وأحواله إليه طوعاً أو كرهاً، فهو وكيل على كل ذلك فاعل به ما يفعل الوكيل من الأخذ والقبض والبسط، ولمثل ذلك كرر الاسم الأعظم فقال: {وكفى بالله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {وكيلاً} أي قائماً بالمصالح قاهراً متفرداً بجميع الأمور، قادراً على جميع المقدور، وقد بان- كما ترى- أن جملة {لله} المكررة ثلاث مرات ذكرت كل مرة دليلاً على شيء غير الذي قبله وكررت، لأن الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات كثيرة يحسن أن يستدل به على كل واحد منها. وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرة واحدة، لأن عند إعادته يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل؛ وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أن هذا الدليل دال على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، فيجتهد السامع في التفكر لإظهار الأسرار والاستدلال عل صفات الكمال لأن الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله تعالى إلى الاستغراق في معرفته سبحانه، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، فكان في غاية الحسن والكمال.
ولما تقرر بهذا شمول علم من هذا من شأنه وتمام قدرته أنتج قوله مهدداً مخوفاً مرهباً: {إن يشأ يذهبكم} وصرح بالعموم إشارة إلى عموم الإرسال بقوله: {أيها الناس} أي المتفرعون من تلك النفس الواحدة كافة لغناه عنكم وقدرته على ما يريد منكم {ويأت بآخرين} أي من غيركم يوالونه {وكان الله} أي الواحد الذي لا شريك له أزلاً وأبداً {على ذلك} أي الأمر العظيم من الإيجاد والإعدام {قديراً} أي بالغ القدرة، وهذا غاية البيان لغناه وكونه حميداً وقاهراً وشديداً، وإذا تأملت ختام قوله تعالى في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر هذه السورة {سبحانه أن يكون له ولد} [النساء: 171] زاد ذلك هذا السر- وهو كونه لا اعتراض عليه- وضوحاً.
ولما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصاً قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه؛ قال تعالى تفييلاً لآرائهم وتخسيساً لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضاً منه تعالى، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس: {ما كان يريد ثواب الدنيا} لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند} أي فليقبل إلى الله فإنه عند {الله} أي الذي له الكمال المطلق {ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} أي النفسية الباقية فليطلبها منه، فإنه يعطي من أراد ما شاء، ومن علت همته عن ذلك فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه فلم يطلب إلا الباقي جمع سبحانه وتعالى له بينهما، كمن يجاهد الله خالصاً، فإنه يجمع له بين الأجر والمغنم، وما أشد التئامها مع ذلك بما قبلها، لأن من كان تام القدرة واسع الملك كان كذلك.
ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولاً أو فعلاً، وكان الفعل قد يكون قلبياً قال: {وكان الله} أي المختص بجميع صفات الكمال {سميعاً} أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي، نفسياً كان أو لسانياً {بصيراً} أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرها فيكون من البصر ومن البصيرة، فليراقبه العبد قولاً وفعلاً.

.تفسير الآيات (135- 136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}
ولما كان ذلك من أحسن المواعظ لقوم طعمة الذين اعتصبوا له، التفت إليهم مستعطفاً بصيغة الإيمان، جائياً بصيغة الأمر على وجه يعم غيرهم، قائلاً ما هو كالنتيجة لما مضى من الأمر بالقسط من أول السورة إلى هنا على وجه أكده وحث عليه: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {كونوا قوَّامين} أي قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه.
ولما كان أعظم مباني هذه السورة العدل قدمه فقال: {بالقسط} بخلاف ما يأتي في المائدة فإن النظر فيها إلى الوفاء الذي إنما يكون بالنظر إلى الموفى له {شهداء} أي حاضرين متيقظين حضور المحاسب لكل شيء أردتم الدخول فيه {لله} أي لوجه الذي كل شيء بيده لا لشيء غيره {ولو} كان ذلك القسط {على أنفسكم} أي فإني لا أزيدكم بذلك إلا عزاء، وإلا تفعلوا ذلك قهرتكم على الشهادة على أنفسكم على رؤوس الأشهاد، ففضحتم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون من جميع العباد.
ولما كان ذكر أعز ما عند الإنسان أتبعه ما يليه وبدأ منه بمن جمع إلى ذلك الهيبة فقال: {أو} أي أو كان ذلك القسط على {الوالدين} وأتبعه ما يعمهما وغيرها فقال: {والأقربين} أي من الأولاد وغيرهم، ثم علل ذلك بقوله: {إن يكن} أي المشهود له أو عليه {غنياً} أي ترون الشهادة له بشيء باطل دافعة ضراً منه للغير من المشهود عليه أو غيره، أو مانعة فساداً أكبر منها، أو عليه بما لم يكن صلاحاً طمعاً في نفع الفقير بما لا يضره ونحو ذلك {أو فقيراً} فيخيل إليكم أن الشهادة له بما ليس له نفعه رحمة له أو بما ليس عليه لمن هو أقوى منه تسكن فتنة {فالله} أي ذو الجلال والإكرام {أولى بهما} أي بنوعي الغني والفقير المندرج فيهما هذان المشهود بسببهما منكم، فهو المرجو لجلب النفع ودفع الضر بغير ما ظننتموه، فالضمير من الاستخدام، ولو عاد للمذكور لوحد الضمير لأن المحدث عنه واحد مبهم.
ولما كان هذا، تسبب عنه قوله: {فلا تتبعوا} أي تتكلفوا تبع {الهوى} وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له {أن} أي إرادة أن {تعدلوا} فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك.
ولما كان التقدير: فإن تتبعوه لذلك أو لغيره فإن الله كان عليكم قديراً، عطف عليه قوله: {وإن تلوا} أي ألسنتكم لتحرفوا الشهادة نوعاً من التحريف أو تديروا ألسنتكم أي تنطقوا بالشهادة باطلاً، وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام- من الولاية أي تؤدوا الشهادة على وجه من العدل، أو الليّ {أو تعرضوا} أي عنها وهي حق فلا تؤدوها لأمر ما {فإن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} أي لم يزل ولا يزال {بما تعملون خبيراً} أي بالغ العلم باطناً وظاهراً، فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه، فاحذروه إن خنتم، وارجوه إن وفيتم، وذلك بعد ما مضى من تأديبهم على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر، وما أنسبها لختام التي قبلها وأشد التئام الختامين: ختام هذه بصفة الخبر وتلك بصفتي السمع والبصر.
ولما أمر بالعدل على هذا الوجه أمر بالحامل على ذلك، وهو الإيمان بالشارع والمبلغ والكتاب الناهج لشرائعه المبين لسرائره الذي افتتح القصة بحقيته وبيان فائدته فقال: {يا أيها الذين ءامنوا} أي أقروا بالإيمان؛ ولما ناداهم بوصف الإيمان أمرهم بما لا يحصل إلا به فقال مفصلاً له: {ءامنوا بالله} أي لأنه أهل لذلك لذاته المستجمع لجميع صفات الكمال كلها.
ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط، وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول قال: {ورسوله} أي لأنه المبلغ عنه سواء كان من الملك أو البشر {والكتاب الذي نزل} أي مفرقاً بحسب المصالح تدريجاً تثبيتاً وتفهيماً {على رسوله} أي لأنه المفصل لشريعتكم المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام والمواعظ وجميع ما يصلحكم، وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق {والكتاب الذي أنزل} أي أوجد إنزاله ومضى؛ ولما لم يكن إنزاله مستغرقاً للزمان الماضي بين المراد بقوله: {من قبل} من الإنجيل والزبور والتوراة وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله.
ولما كان المؤمن الذي الخطاب معه عالماً بأن التنزيل والإنزال لا يكون إلا من الله بنياً للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وابن عامر للعلم بالفاعل، وصرحت قراءة الباقين به.
ولما كان التقدير: فمن آمن بذلك فقد اهتدى وآمن قطعاً بالملائكة واليوم الآخر وغير ذلك من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول، عطف عليه قوله: {ومن يكفر} أي يوجد الكفر ويجدده وقتاً من الأوقات {بالله وملائكته وكتبه} أي التي أنزلها على أنبيائه بواسطة ملائكته أو بغير واسطة {ورسله} أي من الملائكة والبشر، فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه، وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه.
ولما كان الإيمان بالبعث- وإن كان أظهر شيء- مما لا تستقل به العقول فلا تصل إليه إلا بالرسل، ذكره بعدهم فقال: {واليوم الآخر} أي الذي أخبرت به رسله، وقضت به العقول الصحيحة وإن كانت لا تستقل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه، وهو روح الوجود وسره وقوامه وعماده، فيه تكشف الحقائق وتجمع الخلائق، ويظهر شمول العلم وتمام القدرة ويبسط ظل العدل وتجتني ثمرات الفضل {فقد ضل} وأبلغ في التأكيد لكثرة المكذبين فقال: {ضلالاً بعيداً} أي لا حيلة في رجوعه معه.